التعليم الأصلي والتعليم النظامي: "مظاهر النقص وسبل التكامل"

خميس, 02/19/2015 - 21:21

طلب مني أن أبدي وجهة نظر حول موضوع هذا المقال المحدَّدِ سلفا ؛ بفرضيته القاضية بوجود نقص في نظامنا التعليمي بشقيه " المحضري " والمدرسي "، والباحثة عن وجوه التكامل بينهما ..

وأحسب أن الموضوع مهم، وأن تناوله ومحاولة الوصول فيه إلى رؤية نظرية ناضجة ينبثق عنها ويتأسس عليها جهد تعليمي سليم ومتكامل في غاية الأهمية والإلحاح ، ويتطلب الأمر نقاشا كبيرا واهتماما جديا من المختصين ومن المؤسسات العلمية والثقافية المعنية بل وعموم المؤسسات المجتمعية ، وشكر الله لجمعية الفتاة اهتمامها بهذا الموضوع

وليس بمانعِي ما ذكرت من ضخامة الجهد المطلوب في السياق من تقديم رأي متواضع فيه
وهو ما سأوجزه في الملاحظات التالية :

                                                                                                             

ليس للمجتمعات البشرية من أجل المحافظة على خصائصها الإيجابية ، والترقي في مدارج التقدم والكمال ؛ تأثيرا في الواقع ، وحضورا في المستقبل نشاط أهم ولا أبلغ من التعليم ، الذي هو المصنع الذي يصاغ فيه المجتمع ؛ روحيا ، وعقليا ، ونفسيا ، وسلوكيا...الخ

فالتعليم أو التربية (والتربية أدلُّ ) هو المسؤول عن صياغة شخصية الفرد صياغة متكاملة متوازنة في أبعادها المعرفية المتنوعة ، والسلوكية الناتجة عنها وعن التدريب العملي على ممارسة الحياة ..
ومع وجود العشرات من التعاريف للتربية فإنها تكاد تجمع – ضمنيا- على أن رسالة التربية رسالة مركبة من شقين :
1- شق صياغة الفرد وبنائه البناءَ المتكاملَ الذي يسمح بتطور شخصيته وباقتداره على الفاعلية والتأثير في الحياة
2-شق المحافظة على هوية المجتمع ونقلها من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحق

  وإذن فإن البناء الذي تقوم به مؤسسات التربية لأفراد المجتمع لا بد أن يستجيب لهذه البعدين
– في رسالة التربية – . والاستجابة لمتطلبات البعد الأول تقتضي أن يتلقى أفراد المجتمع – خلال مرحلة التعليم – قسطا مقدرا من التعليم في كل المعارف التي تتطلبها الحياة ، كالمواد العلمية المختلفة ، واللغات ، ومختلف المواد الإنسانية
وتستلزم – إضافة إلى الجانب المعرفي – تأطيرا تربويا مصاحبا يتجه إلى تنمية أنماط من السلوك المرغوب لدى الأفراد ؛ بإكسابهم مهارات الحياة المدنية والنظام والتعايش مع الآخر...
وتقتضي الاستجابة لمتطلبات البعد الثاني : اهتماما خاصا ونوعيا بمواد "الهُوية " مثل مادة الدين (تحت أي تسمية ) ، ومادة اللغة (والمقصود بها لغة التواصل بين عموم أفراد المجتمع )
ومادة التاريخ : تاريخ المجتمع : الاجتماعي ، والسياسي ، والثقافي ..

3إن نظرة سريعة إلى نظامنا التعليمي بشقيه المحضري ، والمدرسي مع استحضار الملاحظتين السابقتين ستكشف عن جوانب قصور واضحة وعميقة ومؤثرة ، ولا بأس بضرب بعض أمثلة القصور في كل من التعليمين :
أولا : قصور التعليم المحضري
يبرز قصور التعليم المحضري واضحا في عدم اعتنائه بالبناء المتكامل للشخصية ، فهو يركز على جانب الهوية أساسا ، وله فيه اليد الطولى والعطاء الذي لا يُنكر
ولكن قصوره بارز ومشهود – وكاتب هذه السطور محضري غير متهم – في عدم إيلائه اهتماما للمعارف الأخرى التي تخدمها المواد العلمية والإنسانية المختلفة .
كما أن له قصورا آخر ، وهو عدم الاهتمام بالتربية المدنية ومهارات الحياة المعاصرة .
ثانيا : قصور التعليم المدرسي
ويتجلى قصور التعليم المدرسي بشكل كبير في تهميش مواد الهوية ، فتعليمنا النظامي بكل أسف  يكرس ازدراء أهم مادتين مشكلتين للهوية الوطنية وهما مادة الدين (التربية الإسلامية ) ، ومادة اللغة العربية ، بجعلهما مادتين ثانويتين وهامشيتين في كثير من المراحل والتخصصات وما كان ينبغي لهما أن تكونا كذلك .
كما أنه يهمش اللغات الوطنية الأخرى لصالح لغة المستعمر !

4إن حاصل هذا القصور التربوي في كل من نظامي التعليم بموريتانيا – النظام المحضري الأهلي ، والنظام المدرسي الرسمي – نشأ عنه شرخ عميق في الذات الثقافية الموريتانية
ونتج عنه تعدد في الهويات سيئ ومحرج ، ضمن من يتحدثون اللغة الواحدة ، فما بالك بمن لا لا يشاركونهم نفس اللغة .
وفي الأمر كبير الخطر الذي يجب تداركه بإصلاح تعليمي عميق يقضي على هذه الازدواجية الحدية المؤرِّقة .

5والسؤال الجوهري في الموضوع هو كيف نخرج من مأزق هذا الشرخ الحاصل من القصور المركب في نظامي التعليم الموريتاني ؟
ويعِنُّ لي أن الأمر يقتضي إصلاحا تربويا عميقا يستحضر رسالة التربية في المحافظة على هوية المجتمع وانسجامه ، بالقدر الذي يطمح فيه إلى كفاءة أفراد المجتمع وقدرتهم على التأثير
وذال يستدعي –من وجهة نظري :
1-على مستوى التعليم المحضري
- إدخال المواد العلمية ، كالرياضيات ، والعلوم ، والفيزياء ...والعلوم الإنسانية : كالفلسفة وعلم الاجتماع ..الخ
-كما يتطلب دمج مادة التربية المدنية ضمن مقررات المحضرة
ويستلزم إعادة النظر في البنية الإدارية المحضرية ، وانتقالها من جهد فردي إلى مؤسسة . ولنقاش كيفية ذالك سياق مختلف .
ويستدعي هذا الإصلاح التربوي 
2-على مستوى التعليم المدرسي
1-عناية كبيرة بمواد الهوية ، بحيث تكون أساسية ومرسِّبة في جميع المستويات وفي كل الشعب والتخصصات ، بحيث يكون لكل متخرج من التعليم النظامي رصيد مقدر من حفظ القرآن ، والحديث ، والإلمام الجيد بمبادئ العلوم الشرعية . والأمر سهل وميسر إذا وُجدت العزيمة .
2- كما يستدعي دمج اللغات الوطنية في كل مراحل التعليم بمنهجية واضحة

وليس من شك في أن الموضوع شائك وعميق ويتطلب كتابة متخصصة ومتأنية وهو ما لا يتوفر منه الكثير في هذا المقال .
ومع ذالك نرجو أن يكون إثارة تستدعي كتابات نافعة ومنيرة توصل إلى المقصود.

                             الأستاذ : سيدي محمود ولد الصغير