نحو فتوة نسائية

خميس, 02/19/2015 - 20:20

الحديث عن الفتاة ودورها في المجتمع يستلزم الحديث عن أمرين هما المكونان الأساسيان للفتاة.

أما الأول فهو الفتوة  كمعنى وكمرحلة  عمرية للفتاة، وأما الثاني فالمرأة باعتبارها جنس الفتاة،  فالفتوة في اللغة تطلق علىسن الشباب، أما في الاصطلاح فلا أجمع لمعاني الفتوة من جواب سفيان الثوري وقد سئل عن الفتوة فقال: ((الفتوة العقل والحياء , ورأسها الحفاظ , وزينتها الحلم والأدب , وشرفها العلم والورع , وحليتها المحافظة على الصلوات , وبر الوالدين وصلة الرحم , وبذل المعروف , وحفظ الجار وترك التكبر ولزوم الجماعة والوقار وغض الطرف عن المحارم ولين الكلام وبذل السلام وأبر الفتيان العقلاء الذين عقلوا عن الله أمره ونهيه، وصدق الحديث واجتناب الحلف وإظهار المودة وإطلاق الوجه وإكرام الجليس والإنصات للحديث وكتمان السر وستر العيوب وأداء الأمانة وترك الخيانة والوفاء بالعهد , والصمت في المجالس من غير عي , والتواضع من غير حاجة , وإجلال الكبير , والرفق بالصغير , والرأفة والرحمة للمسكين , والصبر عند البلاء , والشكر عند الرخاء، وأبر الفتيان العقلاء الذين عقلوا عن الله أمره ونهيه، وكمال الفتوة الخشية لله عز وجل فينبغي للفتى أن تكون فيه هذه الخصال , فإذا كان كذلك كان فتى حقا)) . والفتوة شقيقة معالي الأمور ومن أسس الرقابة الداخلية كما قال المتنبي: وترى الفتوة والمروءة والأبوة ...     في كــــلِّ مليحةٍ ضــــراتها هنَّ الثلاثُ المانعات للــذتي ...    في خلوتي لا الخوفُ من تبعاتها ودور الشباب قي كل أمة دور الريادة والتصدر وقد كان إبراهيم فتى حينما ثار على طوطمية قومه }قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ{ وأما قوم موسى فقد قال فيهم تعالى }فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم{. وكانت مريم بنت عمران فتاة حين كانت توفي بنذر أمها في قوامة المسجد وكلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا، أما زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فكن فتيات ما خلا خديجة بنت خويلد وسودة بنت زمعة. أما الأمر الثاني فهو الحديث عن المرأة  وعن مكانتها في الإسلام ويمكن أن يختزل في قوله تعالى: }ولهن مثل الذي عليهن{، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (( النساء شقائق الرجال)). وبما أنَّ المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه، فإنها كذلك مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه!

هكذا كانت تلميذات الحبيب: لقد خرج رسول الله صلى الله جيلا نسائيا تربى في مدرسة النبوة الرشيدة، فوعى بحق رسالته، وأدرك بوضوح واستيعاب مسؤولياته في المجتمع، وأبى التفريط في حقوقه التي أصل لها الشارع بأمر من الملك العادل جل جلاله، فكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يسعى لتربيته الجيل النسوي على تلك المعاني العادلة، معودا المرأة على ضرورة المشاركة وعدم التنازل أو التولي في معركة الزحف الحياتية، ساعيا إلى تكريس تلك الروح التفاعلية المزاحمة في ركب البناء والخلق الإنساني، والأمثلة كثيرة ومتنوعة عبر فصول المدرسة النبوية. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى ". وهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يشاور أمهات المؤمنين في كل أمرٍ عظيم من أمور الإسلام، وكانت لآرائهن آثارٌ طيبة في مسيرة هذه الدعوة المباركة، فهذه أم سلمة رضي الله عنها تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية برأي أنقذ الموقف ورفع الغضب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حين أمر الناس أن يحلقوا رءوسهم وأن ينحروا هديهم ويتحللوا فلم يفعلوا، فأشارت عليه أم سلمة أن يبدأ بنفسه، وأن ينحر هديه وأن يحلق رأسه، فإذا فعل فسيفعله المسلمون فلما امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشارت به أم سلمة ، امتثل ذلك المسلمون جميعاً، فأنقذت هذا الموقف، وقامت بالوجه الصحيح الذي يقتضي صواب الرأي وتمام الحنكة والفطنة. وتلك عائشة رضي الله عنها حين رأت اغتيال الخليفة الثالث وحصاره ظلماً دفعها اجتهادها إلى الخروج للمطالبة بدمه. وأما أسماء بنت أبي بكر فكانت عنصراً بارزاً في أعظم مهمة ألا وهي مهمة الهجرة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الليل إلى غار ثور فكانت أسماء تأتي في الليل وهي تحمل النفقة، وأرادت أن تهيئ لهما زادهما بمكة، فلم تجد وعاءً للفقر المدقع، فلم يمنعها ذلك من التضيحة بما تستطيع، فأخذت نطاقها، وهو الإزار الذي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف اتزرت به، ونصف آثرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر فجعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بذات النطاقين بهذا اللقب الشريف الذي يشهد بتضحيتها الجسيمة، وبذلها في وقت الأزمة والحاجة، ومع ذلك لم تنشغل بتضحياتها عن واجبات البيت، فكانت تذهب إلى أرضٍ للزبير بن العوام بالعقيق، وكان الزبير يزرع فيها، فتأخذ منها ما تعلف به فرس الزبير ، وتحمله على رأسها من مسافة طويلة. ومن منا لا يعرف قصة المرأة المُجَادلة التي جاءت تجادل النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوجها وهي خولة بنت ثعلبة ونزلت بسببها سورة سميت بها. وخنساء بنت خذام الأنصارية، زوّجَها أبوها وهي ثيّب فكرهت ذلك فأتت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فردّ نكاحها، وفي رواية: زوَّجَها أبوها وهي بكر. ومن عامة المجموعة النسائية المتخرجة من مدرسة النبوة الراشدة، تخرج امرأة أخرى تبدي رأيها لتعرف مالها من حقوق، كما روى النسائي أن فتاة دخلت على عائشة فقالت: "إن أبي زوجني ابن أخيه؛ ليرفع خسيسته، وأنا كارهة..." وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الأمر لها فقالت: "يا رسول الله! قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيء". وقصة بريرة وزوجها مغيث بعد فراقهما وكان يمشي خلفها ويبكي ودموعه تسيل على لحيته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة  "لو راجعتِهِ!" قالت: "يا رسول الله تأمرني؟" قال:" إنما أنا أشفع"، قالت: "لا حاجة لي فيه". وكل هذه أحداث ثابتة في كتب السنة الصحاح، فذلك الجيل النسوي الذي تربى على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لعمري جيل حري بالإجلال والاقتداء.

على سنن الصواحب برزت في عصر التابعين بعض النساء اللواتي حفظن علم الصحابة كفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام و صفية بنت أبي عبيدٍ ،وغيرهن من النساء اللواتي كان لهن أثر بارز في خدمة هذا الدين وحفظ هذا العلم. ونسجن روائع القصص من أمثال قصة فتاة بني هلال التي قالت لأمها ليلاً عندما أمرتها أن تمذق اللبن بالماء وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قد أمر ألا يمذق اللبن، قالت الفتاة لأمها: 'والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء'. وكان أمير المؤمنين يسمع قولها متخفيا، فأعجب بأمانتها أيما إعجاب وزوجها من ولده عاصم. ثم في عصر أتباع التابعين، نجد أن نسوة كان لهن أيضاً من الأثر والتضحية والبذل في سبيل الله الشيء الكثير ، فهذه زبيدة بنت جعفر بن المنصور زوجة هارون الرشيد، حين حجت فرأت أن الحجاج ينقلون المياه على الحمر والإبل من مكة إلى عرفات، وأن كثيراً منهم يعطش، ويلقى عناءً في الحج، رأت أن من واجبها أن تقيم سقاية للحجيج تبقى بعدها، فجلست في مكة ولم تخرج منها حتى أقامت مشروعا ضخما، أنفق عليه الملايين من الدنانير، وهذا المشروع ما زال قائماً إلى اليوم مشاهداً، وقد ظل الحجاج أكثر من أحد عشر قرناً وهم يشربون من سقاية زبيدة. أما فتاة اليوم فيطلب منها أمران أساسيان؟ التجسيد العملي للإسلام: أي أن تكون تصرفاتها تعبيراً عملياً صادقاً عن تعاليم الإسلام، فعندما تظهر أمام زميلاتها، أو أمام المجتمع لحاجتها، يعلم الناس أن وضع المرأة المسلمة وضع جيد، ويبشر بخير كثير. فتعبر عن هويتها الإسلامية بالحجاب الشرعي الحقيقي، وليس بالحجاب التقليدي، المصحوب بالتكشف والتبرج، والتعطر، فيبدو حجابا ألزمت به إلزاماً، ولم ينبع من إيمانها ويقينها ودينها. ولا يتعلق الأمر بالحجاب فقط بل أن تكون الفتاة بكل تصرفاتها نموذجاً لما يدعو إليه الإسلام بكل شيء، فالخلوة والاختلاط بالرجال أو كثرة الحديث معهم من غير حاجة، أو كثرة الخروج إلى الأسواق والأماكن العامة لغير داع ليست من شأن الفتاة المسلمة. ولا بد أن تكون صادقة في حديثها ووعدها، وفية بالتزاماتها قانعة بما في يديها، منتجة بناءة، مقنعة  بلسان الحال كما هي بلسان المقال، تتفقد الجار وتنشط في المجتمع. النزول إلى الميدان: أي أن تنزل إلى الميدان، ولا تهرب من الواقع، وأن تكون فعالة إيجابية:مدرسة، وموجهة، ومديرة، وإدارية، ودارسة، ومشاركة في كل مجالات العمل، التي تستطيع أن تؤثر من خلالها. حتى لو تنازعتها مسؤوليات البيت ، يجب أن تؤدي دورها من خلال موقعها كمدرسة في مدرسة مثلاً، أو دكتورة، أو من خلال الأعمال الخيرية، كنشاط الجمعيات الثقافية والاجتماعية، أو غيرها من المجالات، أومن خلال جهودها الشخصية، واتصالها بالأقارب والأصدقاء، كما يجب أن تكون متأهبة للدفاع عن حقوقها وحقوق المجتمع وأن تسهم بفاعلية في كل الإصلاحات وآلياتها السلمية. فتوة و نسائية: إن ضالتنا الحقيقية هي تلك الفتاة التي تعي بحق أن الله قد فتح لها من أبواب العطاء ما لم يحظ به غيرها، فهي المعني الأول بإحدى أهم أهداف المجتمع ألا وهي صناعة الرصيد البشري القويم والفعال، الذي يمثل عصب التنمية في أي أمة، أضف إلى ذلك أنها إن أحسنت قيادة مؤسسة البيت فهي توفر للمجتمع مخزنا لامتصاص الصدمات وتقويم الاعوجاجات التي يرسبها محيط الحياة وسننه التدافعية ، غير أن هذه الأدوار  لا تمعنها أبدا من الاضطلاع بمسؤولياتها الجوهرية الأخرى تجاه المجتمع  ــ كما يشهد لها التاريخ ــ  بما يضمن حضور بصمتها في صفحات التاريخ، ويمكنها من أداء رسالتها الجليلة المتشعبة بما تتطلب من وعي وبذل وعزم وتضحية، لتتعانق بذلك صفة الفتوة عندها بوظيفة النسائية.

                             الأستاذ محمدن ولد الرباني