"موسم الهجرة إلى الشمال" هي رواية أدبية للكاتب السوداني الطيب صأالح" مليئة بما يثير الغرائز، ويخدش الحياء على عادة معظم أدبائنا – مع الأسف – في كتابة القصة والرواية ظنا منهم أن ذلك غاية الظرف والرقي والإنفتاح.
كنت – وأنا أقرأ هذه الرواية – مفتونة بالأسلوب الأدبي المميز والبيئة البدوية السودانية التي تشبه بئتنا إلى حد بعيد، أقلب الصفحة والصفحتين لأتجاوز ما أخجل من قراءته، لكني لم أستطع التوقف وكأني وقعت تحت ذلك السحر الإفريقي الأسود فلا أكاد أرفع عيني حتى أكتملت القصة.
استعدت توازني بعد فترة وبدأت أقوّم ما قرأت فوصلت إلى نتيجة مهمة هي أنني قرأت رواية مميزة تحمل معاني نبيلة وصور بليغة، ولكن الجميعيسبح في مستنقع آس.
تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خضراء الدمن، حيث أخبرنا أنها المرأة في منبت السوء
فأسقطتها على ما قرأته من معاني جميلة في الرواية المذكورة فاستغفرت الله على ما كان مني، ولكن لمعت في ذهني فكرة جديدة وهي أن أهاجر بتلك المعاني بعيدا عن قرية السوء تلك، وأضعها في منبت صاح هذه المرة، أقدمها لكم ليعظم حرفها ويزداد تألقا فيلامس شفاف قلوبكم الطيبة.
ذكر "الطيب صالح" في قصته أن البطل عاد من "لندن" إلى قريته على منحنى النيل في السودان بعد سبع سنوات قضاها في الدراسة يقول: ( عاد وكأنه لم يفارق قريته قط إذ ما كان يحل فيها فتشرق عليه شمس إفريقيا من جديد ويسري فيه دفئ العشيرة حتى تبدد ضباب إنكلترا في عينيه وذابت بداخله ثلوج الشمال ).
أظن أنكم في هذه الصورة شتشاركوني إعجابي الشديد بلحظة الإنتظار الرمزية هذه فشمس إفريقيا قهرت ضباب أنكلترا وثلوج الشمال.
فتحية لشمسنا النقية التي تصدت ببسالة إلى كل ما هو دخيل على ثقافتنا من ضباب وثلوج...
ويقول "الطيب صالح" على لسان البطل في وصفه لجده (جدي عظام وعروق وعضلات ليست فيه قطعة واحدة من الشحم، نبتة صهدها قحط البرور الحارة كشجيرات السيال في صحاري السودان متمتكة اللحى حادة الأواك تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة).
أعجبني كثيرا تشبيهه للجد في القصة بشجر "السيال" الذي يعمر طويلا لأنه لا يسرف في الحياة فأجريت بحثا عن هذا الشجر فعرفت أنه هو النبات المسمى "إيروار" عندنا الذي ثمرته الصمغ العربي، وأن السودان ينتج 50% من حاجات العالم من الصمغ، هنا تذكرت السفير السوداني في الولايات المتحدة سنة 2007 في مؤتمر صحفي محاطا بمنتجات الكولا والصودا وغيرها وهو يهدد الغرب بحرمانهم منها إذا لم يرفعوا العقوبات عن السودان لأنهم سيقطعون الصمغ الغربي الذي يعتبر مكونا أساسيا في هذه المشروبات، سرح خيالي بعيدا وأنا أتخيل الجماهير الغربية تتظاهر في الشوارع تهتف " عطشى.. قطرة كولا من فضلكم " و"المنظمة العربية الإفريقية للصمغ" تجتمع في انواكشوط للبحث عن كيفية التوصل إلى حل لهذه الأزمة بإعلان السعر النهائي للكيلو غرام من هذه المادة المرتفعة القيمة، وفجأة رجعت والحمد لله للواقع وقرأت المعوذتين والإخلاص فالظاهر أن تأثير السحر لم ينتهي بعد.
بقلم: أم البنين بنت محمد أحمد